الهجرة القسرية والمسلمون البوشناق في السنجق
الأستاذ الدكتور أنور غيتسيتش
عميد كلية الدراسات الإسلامية نوفي بازار / جمهورية صربيا
عضو الهيئة الاستشارية لمؤسسة منارات الفكر الدولية
انتقل البشر منذ بداية الحضارة الإنسانية من مكان إلى آخر لأسباب عديدة أغلبها ارتبط بتحسين ظروف الحياة بحثاً عن مكان أفضل، إلا أن البشرية عرفت أيضاً ومنذ بدايات الحضارة الإنسانية هجرات إضطرارية أو تهجير قسري، سبَّب تغييرات ديموغرافية واسعة في العالم وخلق مجتمعات جديدة وأعراق بشرية جديدة بسبب اختلاط الأعراق، كما خلق ثقافات جديدة بسبب تمازج وتدافع الثقافات بين بعضها في المجتمعات المختلطة، والمثال على ذلك في الوقت الحالي دول المهجر التي جمعت شعوباً من شتى أنحاء الأرض صنعت نماذج جديدة وثقافة اجتماعية جديدة كما خلقت نماذج سياسية مختلفة وأعراق بشرية بسبب الإختلاط الكبير بين أعراق متعددة.
الإنتقال من مكان إلى آخر دعي بتسميات متعددة مرتبطة بظروف الإنتقال، فالإنتقال الذي يتم بشكل إرادي لأسباب إضطرارية أو غير إضطرارية يدعى هجرة، بينما الذي يحدث بسبب كوارث طبيعية أو حروب فيسمى نزوحاً ويدعى المنتقلون نازحين، والذين ينزحون لأسباب أمنية أو أسباب تتعلق بسلامتهم فيلجؤون إلى منطقة أو بلد أكثر آماناً فندعوهم لاجئين، والمفترض أن اللجوء مؤقت إلى أن تزول أسبابه بينما الهجرة هي انتقال دائم إلى مكان آخر، أما إنتقال مجموعات بشرية والسيطرة على أراض أخرى مسكونة أو غير مسكونة فيسمى استيطاناً والقادمون مستوطنون .
في التشكيلات البشرية الأولى كانت الهجرة ترتبط بالمناخ وخصوبة الأرض وتوفر المياه وغيرها من سبل الحياة فعرف التاريخ القديم حركات بشرية استوطنت في أراض جديدة وبنت مدناً وقرى وبدأت تراكم المعرفة، وعند بناء الممالك واتساعها بدأت الصراعات والحروب بين الممالك والإمبراطوريات للسيطرة واستغلال موارد البلاد الأخرى، فبدأت تأخذ هذه الصراعات الطابع القومي والعرقي، وكانت هذه الصراعات سبباً في هجرة وانتقال كتل بشرية عديدة وتغيير ديموغرافي وسكاني في العديد من المناطق في العالم. ولا ننسى أن الصراعات قديماً والهجرات القديمة كانت تتم في عالم غير مزدحم بالسكان حينها، فكانت الأرض تتسع لحركات الهجرة والنزوح دون عوائق الحدود الجغرافية الحالية، فكانت طبيعة الأرض والممالك تتغير عبر التاريخ بسبب هذه التنقلات البشرية والإستيطان الجديد.
إلا أن العالم عرف أيضاً الصراعات الفكرية والدينية منذ عهد الممالك والأمبراطوريات الأولى في التاريخ والتي سببت أيضاً العديد من الهجرات الإرادية والهجرات القسرية وحركات النزوح الواسعة.
وضمن مسيرة هذه الحضارة البشرية إذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامي فسنجد أن حركة الإنتقال والهجرة كانت نشطة جداً ومنذ بداية هذا الدين الحنيف حيث عانى المسلمون الأوائل من الرفض والإضطهاد فهاجروا إلى الحبشة لاجئين عند ملكها، ثم كانت هجرة الرسول الكريم ﷺ إلى يثرب حيث أسس الدولة الإسلامية الأولى.
الصراع الفكري والديني كان السبب في حركات الهجرة هذه حيث رفض أهل قريش دعوة الرسول الكريم ﷺ وعملوا على وأد هذا الدين الجديد بشتى الطرق، إلا أن أن الدين الجديد وبالإنتقال إلى مدينة يثرب وجد فرصة أكبر بالنمو والإتساع والفرصة لتشكيل الدولة الإسلامية. رافق تشكيل الدولة الإسلامية حركات انتقال نشطة وواسعة وتغيير كبير في ديموغرافية وعقائد وثقافات الشعوب التي سادت عليها هذه الدولة فتغيرت حياة القوم تغيراً جذرياً على كافة الصعد وخلقت مجتمعاً جديداً مختلفاً كلياً عن المجتمع الذي عاشه سكان المنطقة سابقاً.
وإذا نظرنا بقليل من التحليل إلى حركات الإنتقال في الدولة الإسلامية وأسبابها وأنواعها، سنلاحظ أنه رافق تشكل الدولة الإسلامية كل أنواع الهجرة والنزوح واللجوء والإستيطان وغيرها من حركات الإنتقال الإرادي والقسري. وما رافق من انتقال الجيوش والإستيطان في مناطق جديدة وكذلك ما رافقها من تمصير الأمصار وتأسيس مدن جديدة تحوي مجتمعات جديدة تختلط فيها القبائل والأعراق والثقافات فتتشكل ثقافة جديدة ومجتمع جديد كما في مدن العراق التي تأسست في العهد الراشدي كالبصرة والكوفة أو واسط في العهد الأموي وبغداد في العهد العباسي وكذلك القاهرة والقيروان والعديد من المدن الأخرى.
هذه المدن التي أنشأت في العهود الإسلامية أصبحت مراكز علمية وثقافية وفكرية فهذا الإختلاط كان سبباً في تلاقح الأفكار والثقافات وخلق عادات وتقاليد وثقافة جديدة أكثر تلوناً.
وفي التاريخ الحديث وبعد تراجع قوة الدولة الإسلامية أو الدول الإسلامية، حيث أصبحت دولاً متفرقة ومتناحرة في أحيانٍ كثيرةٍ، عانى المسلمون من إضطهاد وقمع ما سبب حركات نزوح واسعة في العالم وغيّر من ديموغرافية وطبيعة العديد من البلدان، وما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا.
لو عدنا إلى التاريخ فسترى أن الصراعات بين البشر لم تتوقف عبر التاريخ، وكذلك الهجرة والتهجير لم تتوقف عبر التاريخ، وإذا نظرنا إلى تاريخ العالم الإسلامي وتحديداً في العصور الحديثة، فإن العالم الإسلامي ربما عانى أكثر من غيره من الصراعات والحروب وما رافقها من فظائع ومآسي ومنها التهجير القسري إلى درجة التطهير العرقي، فالصراع الديني الذي أُفتعل وأُججت أواره في شبه القارة الهندية أودى بحياة عدد كبير من الضحايا وأدى إلى تقسيم الهند إلى ثلاث دول هي الهند وباكستان وبنغلادش وتهجير قسري لأعداد بشرية هي الأكبر في التاريخ كتهجير قسري بناءاً على الإنتماء الديني والعرقي يحدث في وقت قصير.
وفي فلسطين مسرى الرسول الكريم ﷺ ، كان المشروع الأوروبي بإنشاء دولة إسرائيل وتجميع اليهود فيها سبباً في تهجير السكان العرب الأصليين من بلادهم واضطهاد من بقي منهم وشن حروب دائمة عليهم بغرض استئصالهم من هذه الأرض.
إن الصراعات والحروب وما يرافقها من مآسي وانهيارات اقتصادية هي أحد أهم أسباب الهجرة والتهجير القسري، وفي وقتنا هذا فإن ما يشهده العالم الإسلامي اليومي من صراعات وحروب وعدم استقرار كما في أفغانستان والدول العربية حالياً هي سبب رئيسي في هجرة الملايين باتجاه الغرب وفي هذه الورقة نتحدث عن الهجرة الخارجية دون ذكر الهجرات الداخلية الكبيرة التي تعانيها هذه الدول، فقد هاجر أو هُجِّر الملايين من سكان العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان والصومال، وسبقتهم الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وفي أوروبا المسلمون البوشناق والمسلمون الألبان وغيرهم من مسلمي أوروبا الذين تعرضوا للتهجير القسري.
وبالعودة للتركيز على مسلمي البلقان فهذا جرح نازف آخر لا يقل عن سواه في فظاعاته ومآسيه وهو جرح قديم يعاود النزف كل حين فما أن تنطفىء الحرب في البلقان لعقد أو عقدين من الزمن إلا وتعاود الإشتعال من جديد، وأقصد الحرب على المسلمين في البلقان التي أخذت شكل التطهير العرقي ضد المسلمين في محاولة لإزالتهم وإلغاء وجودهم في هذا الجزء الأوروبي. رافق هذه الحروب تهجير قسري لم يتوقف منذ القرن التاسع عشر أي منذ خروج العثمانين من البلقان، ورافقها حرب إعلامية وإيديولوجية حاولت القضاء على الإسلام والمسلمين في هذا الجزء من أوروبا.
في الحرب الأخيرة وبسبب تطور الإعلام وانتشار الفضائيات رأى العالم جزءاً من الحرب الأخيرة في تسعينيات القرن الماضي التي استهدفت أغلبها المسلمين والأقاليم المسلمة في البلقان، إلا أن الغالبية لا تعرف أن هذه الحرب كانت حلقة من حلقات حرب استئصال مستمرة وقديمة، إلا أنها كانت أكثر وحشية وشمولية حيث اتسعت لتشمل كافة الأقاليم والمناطق المسلمة. كما خفي جانب مهم من هذه الحرب على المتابعيين هو جانب الحرب الفكرية والثقافية والإعلامية. فمنذ عام 1848م، أواخر عهد الدولة العثمانية يقول أحد مفكري الصرب بما معناه “أننا يجب أن نستأصل المسلمين وذلك بأن نقتل ثلثهم ونهجر ثلثهم والثلث الباقي نعيد صياغة إسلامهم بما يناسبنا”.
ولو عدنا إلى التاريخ محاولين أن نفهم سبب محاولة الإستئصال هذه، فسنصل إلى بداية وجود الإسلام في المنطقة.
إن المسلمين في البلقان يرجعون إلى عرقين أساسيين، المسلمون الألبان والمسلمون البوشناق، والأخيرون أسسوا قديماً دولة سميت “البوسنة”، وتعود أصولهم إلى الأريوسيين، وهم تيار ديني رفض الإقرار بألوهية النبي عيسى عليه السلام وأعتبره نبياً من أنبياء الله، وهذا ما عرضهم تاريخياً، للضغوط ومحاولة إجبارهم تارة على قبول الأرثوذكسية وتارة الكاثوليكية. هذا كان من الأسباب المهمة في سرعة إعتناقهم الدين الإسلامي في أول إحتكاك معه حال دخول العثمانيين للمنطقة وسيطرتهم عليها.
يضيف إنتصار العثمانيين على الصرب خاصة عاملاً نفسياً مهماً في كراهية المسلمين الباقيين في المنطقة حيث أن نتائج معركة (قوصوة ) التي جرت في كوسوفو التي انتصر بها العثمانيون إنتصاراً ساحقاً ما زالت أثارها النفسية مرسومة في وجدان القوميين الصرب. حيث أن صربيا هي المحور الرئيس في الحروب ضد المسلمين. ويبدو أن دور المسلمين البوشناق في الوظائف العليا في الدولة العثمانية ودورهم في حروب الدولة العثمانية ضد أوروبا الغربية خلال فترة تمدد الدولة العثمانية كان سبباً آخر لدى الإمبراطورية النمساوية الهنغارية وبعض الدول الأوروبية الأخرى أيضاً للإنتقام من البوشناق.
فما أن بدأ تراجع سيطرة العثمانيين في أوروبا وانحسارهم عن البلقان في القرن التاسع عشر بدأ البوشناق يعانون من الإضطهاد والتضييق، وظهرت بعد ذلك الأفكار والطروحات القومية والدينية المتطرفة وخاصة لدى الصرب تدعو إلى إستئصال المسلمين من المنطقة. وبعد حروب البلقان في العام 1912م- 1913 م هاجر وهُجّر مليونين ونصف المليون من مسلمي البلقان إلى داخل أراضي الدول العثمانية حينذاك وكانت تلك أكبر هجرة للمسلمين من البلقان عبر تاريخهم، إلا أن هذا التهجير لم يتوقف، فقد مورست ضدهم كل أنواع التضييق عليهم لدفعهم للهجرة فاستمر النزف طوال القرن الماضي كما قام الصرب بمذابح وتطهير عرقي ضد المسلمين كل عقدين أو ثلاثة عقود.
كان من نتائج هذه الحرب العسكرية الأخيرة في البلقان في تسعينيات القرن الماضي قتل أعداد كبيرة من المسلمين البوشناق وتهجير أعداد كبيرة أخرى وتغيير ديموغرافي كبير في العديد من مناطق البوسنة وصربيا، فكثير من المدن التي كان يقطنها نسبة كبيرة من المسلمين، أفرغت من المسلمين خلال الحرب ولم يعد فيها مسلمين الآن. ومن النتائج السياسية إستقلال جمهورية البوسنة والهرسك عن صربيا والجبل الأسود، وإن كان هذا الإستقلال منقوصاً سياسياً، وشكل الدولة رسمته القوى العظمى بطريقة لا يرقى إلى شكل الدولة الحقيقي، حيث الجمهورية مقسمة إلى فيدرالية وكونفدرالية، وبدل الرئيس هناك مجلس رئاسي من ثلاثة رؤساء، وإلى آخر هذه التقسيمات التي تجعلها دولة غير مترابطة على أرض الواقع. كما استقلت بقية جمهوريات الإتحاد اليوغسلافي جميعاً عن صربيا وكان آخرها الجبل الأسود التي أعلنت إنفصالها عن صربيا في محاولة التنصل من مسؤوليات وتبعات هذه الحرب، وأخيراً إعلان إقليم كوسوفو ذو الأغلبية الألبانية المسلمة إستقلاله عن صربيا. وبينما كانت الحرب مع كرواتيا صراع على السيطرة على الأرض والنفوذ كانت الحرب على المسلمين حرب إستئصالية تستهدف وجودهم في البلقان عموماً.
أقليم السنجق والذي أغلب سكانه من المسلمين البوشناق، تم تقسيمه بين جمهوريتي صربيا والجبل الأسود مؤخراً بعد انفراط عقد الإتحاد اليوغسلافي. هذا الإقليم كان هدفاً لهذه الحرب الإستئصالية ولكن عبر محاولة تهجير سكانه ودفعهم لمغادرة المكان منذ القرن التاسع عشر وخلال حروب البلقان في بداية القرن الماضي حدثت هجرة كبيرة من السنجق كان أغلبها باتجاه الأراضي التركية أعقبها هجرات متتالية أكبرها فترة الحرب العالمية الثانية[1]، وبالرغم من أنه لا توجد إحصائية دقيقة لعدد المسلمين البوشناق الذين يعيشون في المهجر إلا أنه من المؤكد أن المسلمين البوشناق من إقليم السنجق الذين يعيشون في المهجر أكثر من عدد سكان السنجق حالياً بكثير.
هذه الحرب ضد بوشناق السنجق لم تنتهي فصولها إلى الآن وما زالت مستمرة ولو بشكل أضعف، محاولة إلغاء الهوية الدينية والثقافية للمسلمين البوشناق في السنجق ومحاولة تصويرهم على أنهم بقايا العثمانيين من أجل تأجيج الكراهية القومية والدينية ضدهم.
بالرغم من توقف العنف المباشر ضد مسلمي السنجق إلا أن الحرب الإقتصادية والثقافية لم تتوقف ولم تتغير، فما زال السنجق خارج منظومة الدولة للتطوير أو الإستثمار أو حتى تجهيز البنى التحتية والخدمات الأساسية في كافة مناطق الإقليم، وبذلك ارتفعت نسبة البطالة إلى 55% من نسبة اليد العاملة في السنجق كما يفتقر الإقليم إلى الخدمات الأساسية، فما زالت أغلب الخدمات رديئة دون استثمار حقيقي لتطوير شبكة الطرق العامة أو تجهيز مطار مدني أو التطوير العمراني والخدمي في مدن السنجق. والميزانية التي تخصصها حكومة صربيا، كمثال لمدينة نوفي بازار عاصمة إقليم السنجق بالكاد تكفي مرتبات العاملين في القطاع العام التابع للدولة دون تخصيص مصاريف حقيقية لتحسين شروط الحياة وتحسين الخدمات وتعبيد الطرق وغيرها من المصاريف الضرورية. وتتجاهل الحكومة الصربية دوماً أن تشجع أي استثمار متوسط أو كبير في إقليم السنجق قد يساهم في تطوير الإقتصاد ويوجد فرص للعمل.
يرافق هذا الحصار الإقتصادي حصار ثقافي وإعلامي، حيث استطاعت المشيخة الإسلامية التي تمثل المجتمع الإسلامي في إقليم السنجق رغم شح الموارد أن تؤسس مؤسسات تعليمية وثقافية إبتداءاً من رياض الأطفال والتعليم الشرعي للإناث والذكور وكلية الدراسات الإسلامية والجامعة العالمية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم وغيرها من المؤسسات الثقافية والخيرية. إلا أن الحكومة لم تقدم يد العون بل عملت على تعطيل أو تأخير بعض هذه المؤسسات وتراجعت عن إعادة الأوقاف الإسلامية كي لا تستفيد منها المشيخة في تطوير مؤسساتها وحاولت إعاقة تحسين الأوقاف الحالية وحاولت أن تضع العقبات في بعض المشاريع التي تقوم بها المشيخة الإسلامية.
هذه الممارسات وغيرها من الممارسات السياسية تهدف إلى إبقاء مسلمي السنجق في حالة فقر وتخلف وضيق مادي تدفعهم للهجرة ومغادرة البلاد، أو مسح شخصيتهم وهويتهم الإسلامية أو على الأقل أن تبقي من بقي منهم بدون قوة إقتصادية أو مؤسسات قادرة على التأثير، وتحويلهم إلى أقلية صغيرة مهملة في البلاد.
أما المشهد السياسي في صربيا فإن خسائر الحرب والتبعات الإقتصادية ولّدت تيارات مختلفة على الساحة السياسية، فبينما كان التيار القومي المتطرف هو السائد أثناء الحرب على البوسنة ويرافقه سيطرة كاملة على الإعلام الذي كان يشوه هذه الحقائق، ويظهر الضحية بأنه المعتدي، هذه السيطرة الإعلامية إنكسرت وبدأت ترتفع بعض الأصوات التي تظهر جزءاً من الحقيقة التي غابت عن أغلب الشعب، وظهر بعد الحرب تيار ديمقراطي يحاول أن يتصالح مع نفسه وتاريخه من خلال الإعتراف بالحقائق الديموغرافية وتبدى في أحزاب ما زالت صغيرة ذات دور محدود في المشهد السياسي، كما ظهر تيار برغماتي يتعامل مع الواقع ودافعه الأساسي العامل الإقتصادي ومحاولة الإستفادة من أوروبا، أما التيار الأوسع في الشارع السياسي فما زال يفكر بنفس تلك النظرة القومية المتعصبة وإن إختلفت لدى جزء كبير منه تلك اللغة المتشنجة التي سادت فترة الحرب وبدأ يستخدم تعابير مختلفة تناسب المرحلة ولكنها ما زالت تبطن في طياتها ذات النظرة العنصرية. أما الجزء المتطرف من القوميين والذي لا زال يحظى بشعبية واسعة في الشارع الصربي، فما زال يتجاهل الحقائق ويرفض الحقوق السياسية والثقافية للآخرين.
ولإكمال صورة المشهد لا بد من النظر إلى دور الدول المؤثرة في هذا المشهد وهي أوروبا وروسيا وتركيا التي تصاعد دورها في السنوات الأخيرة، فالمصالح الإقتصادية دفعت السياسين للتوجه إلى أوروبا محاولين تحقيق بعض المطالب الأوروبية في محاولة للإندماج مع أوروبا والخروج من الحالة المتردية إقتصادياً وصناعياً وخصوصاً أن روسيا بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي ومحاولة إعادة بناء قوتها في العقد الأخير لن تستطيع أن تخرج صربيا من ضعفها الإقتصادي، وجل ما تقدمه هو بعض الدعم السياسي، أما أوروبا التي ترغب أن تضمن الأمن في جنوبها والذي هو أحد المعابر إلى الشرق الأوسط كمصدر الطاقة، كما ترغب بأن تضم دولة أخرى تدور في فلك الدول الأوروبية الكبرى، فهي تمارس ورقة المساعدات الإقتصادية والترغيب في دخول الإتحاد الأوروبي بفرض شروطها على السياسة الصربية. أما الدور التركي الذي برز بشكل واضح مع تنامي دور تركيا في المنطقة فقد بدأ يؤثر ولو بشكل محدود حتى الآن على الحالة السياسية معتمداً على القوة الإقتصادية وتأثير القوة الناعمة لتركيا.
بعد هذه النظرة الموجزة للمشهد العام في صربيا لأنها مصدر الحروب في السابق ومصدر الأيديولوجية القومية العنصرية التي كانت تطمح لبناء صربيا الكبرى فإن هذه الإيديولوجية وبالرغم من كل المتغيرات والتأثيرات والحالة الإقتصادية بقيت هي المهيمنة على فكر الشارع الصربي تغذيها طبقة من المفكرين السياسين من مدرسي الجامعات بالإضافة للكنيسة التي لعبت وما زالت تلعب دوراً في هذا التوجه.
إن المسلمين البوشناق الذين هاجروا واستوطنوا في البلاد الإسلامية الأخرى اندمجوا في مجتمعاتهم وكانوا عناصر ناجحة في المجتمع وبرزت منهم أسماء عديدة عبر التاريخ منهم أحمد باشا حاكم مدينة عكا الذي أوقف تقدم نابليون في فلسطين وأفشل مخططه ومن المعاصرين تانسوت تشيلر رئيسة وزراء تركيا السابقة وعبد الرحمن بوشناق عضو مجمع اللغة العربية في المملكة الأردنية الهاشمية وغيرهم من السياسين والأعلام، وهناك جاليات بوشناقية في بلاد الشام وشمال أفريقيا والمدينة المنورة وغيرها من البلاد العربية كما توجد جاليات في أوروبا الغربية وبلاد المهجر وهؤلاء أغلبهم هاجرحديثاً أثناء وبعد الحرب الأخيرة، إلا أن أكبر جالية بوشناقية تعيش في تركيا وأغلبهم يعيش في مدينة اسطنبول.
هذه الهجرات لم تلغ الإنتماء القومي والعاطفي والإنتماء للإسلام لأغلب المهاجرين البوشناق ففي دول أوروبا الغربية استطاعت الجاليات البوشناقية تأسيس تجمعات وبنت مساجد في العديد من مدن أوروبا الغربية، وفي الغالب حافظت على هويتها وخصوصيتها وبقيت تتواصل مع مؤسسات البلد الأم. وفي تركيا بالرغم من أن قسم كبير من هذه الهجرات مضى عليها أجيال عدة إلا أن بعضهم ما زال يتواصل مع أقاربه البوشناق في السنجق، أما في الدول العربية فقد كان البوشناق أكثر انصهاراً بمجتمعاتهم الجديدة فأغلبهم تعرّب وبقيت علاقاتهم ببلادهم الأصلية محدودة، وذلك لخاصية الدول العربية وخاصية علاقتهم بالإسلام.
بالرغم من المآسي والمرارة التي تصبغ الهجرة أو التهجير القسري والصعوبات والعقبات التي ترافق هذا الإنتقال إلا أن المجتمعات التي تشكلت من مهاجرين كالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا وغيرها من دول المهجر أو الدول التي استقبلت أعداداً كبيرة من المهاجرين أنتجت أنواعاً جديدة من المجتمعات المنفتحة وأنماطاً جديدة من السلوكيات والعادات. هذه المجتمعات التي تكونت من مجموعة من المهاجرين من أصقاع الأرض أستطاعت التقدم على أصعدة عدة بسبب الخبرات التي تجمعت فيها. فالزائر لمدن الولايات المتحدة الكبرى على سبيل المثال سيدرك مباشرة أنها تجمعٌ لخليط واسع من الأعراق والأثنيات، وسيدرك حجم التفهم ومفهوم التعددية في هذه المجتمعات، وسيلاحظ أيضاً حجم التقدم المجتمعي والسلوكي العام في هذه المدن. هذا ينطبق أيضاً على دول ككندا وأستراليا والعديد من المدن التي تشكلت من مهاجرين من أعراق مختلفة. وفي دول الخليج العربي هناك العديد من المدن كدبي وأبو ظبي والدوحة وغيرها أصبحت مدناً عالمية لاستقدامها الخبرات من جميع أطراف الأرض، فأصبحت مكاناً تجتمع فيه أعراق وثقافات عديدة وتشكل فيها نموذجاً مدنياً جديداً يختلف عن المجتمع القديم في هذه البلاد، وأصبحت مدناً عالمية مشهورة.
بالرغم من أن قسم كبير من المهاجرين في هذه التجمعات البشرية الكبيرة في دول المهجر والدول الغربية، حافظ على هويته واحتفظ بعاداته وتقاليده الأصلية كما في بلده الأم التي قدم منها والتي قد يحافظ عليها لأجيال عدة، إلا أن قسماً آخر فقد خصوصيته في محاولة الإندماج مع البيئة الجديدة وفقد هويته التي تميزه.
الخاتمة
بالنسبة لنا نحن المسلمون علينا أن نستفيد من هذه التجارب الإنسانية، فعلينا أن نرسخ مفاهيم تقبّل الآخر وتقبّل التنوع العرقي والإختلاف الديني والفكري كما أمرنا ديننا الحنيف، والتعايش مع المجتمعات الإنسانية بشكل أفضل، كما ورد في حديث الرسول الكريم ﷺ :” يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى”[2]، وكما قال تعالى في كتابه العزيز:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ (الحجرات: 13 )[3] ، ولكن علينا في نفس الوقت الحفاظ على خصوصيتنا الدينية والأخلاقية وقيمنا التي نعتز ونفتخر بها، قال تعالى:﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ﴾ ( ال عمران: 110)[4].
ولكي نحد من ظاهرة الهجرة الإضطرارية علينا أن نعمل ما بوسعنا بأن نحسن سبل المعيشة في بلادنا وفي مجتمعاتنا بتحسين الظروف الإقتصادية وخلق فرص العمل وتحسين مستوى الخدمات والتعليم، وجعل مدننا مكاناً يسهل ويطيب العيش فيه. وفي نفس الوقت علينا أن نتواصل مع الجاليات التي هاجرت واستقرت في دول المهجر ودول الغرب عموماً وإبقائها على اتصال بتاريخها وثقافتها وهويتها وتعميق إحساسها بهويتها التي ترتبط بالمفاهيم الأخلاقية والدينية والإنسانية، مع احترام قيم وعادات وقوانين المجتمعات التي يعيشون بها.
بالنسبة لنا المسلمون البوشناق في السنجق لا يتم هذا الأمر إلا بالتعاون بين أفراد المجتمع المسلم وبالتعاون مع الدول والمجتمعات والمؤسسات الإسلامية في الدول الإسلامية الأخرى، كي لا نكون في جزيرة معزولة تقاوم العواصف منفردة، قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾( المائدة: 2) “[5].
الهوامش:
[1] انظر البوشناق في صربيا والبوشناق في الجبل الأسود.
[2] أخرجه أحمد والبيهقي وأبو نعيم والطبراني.
[3] الحجرات 13.
[4] آل عمران 110.
[5] المائدة 2.
تعليق واحد